بـــــــســـــــم الله الرحـــــــمـــــــن الرحـــــــيـــــــم

إتحاف الأبرار بنقل إجماع العلماء على وجوب زكاة أموال التجار

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد

:فهذا بحث مختصر أثبتُّ فيه إجماع أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، وقد قسمته إلى عدة مباحث وهي كالتالي

.المبحث الأول: معنى عروض التجارة

..المبحث الثاني: نقل الإجماع على وجوبها

.المبحث الثالث: حكمُ العلماء على القول بعدم وجوب الزكاة بالشذوذ والخطأ ومخالفة الإجماع

.المبحث الرابع: أول من عُرِف عنه خرق الإجماع

.المبحث الخامس: من نُسب إليه القول بعدم الوجوب وهو لا يصح عنه

.المبحث السادس: الأدلة على وجوب زكاة عروض التجارة

 المبحث الأول: معنى عروض التجارة 

المبحث الأول: معنى عروض التجارة.

العروض: جمع عَرْض –بفتح العين وسكون الراء – بمعنى الإظهار والكشف، يقال: عرضت الشيء: أظهرته.

والعَرَض -بفتح العين والراء- متاع الدنيا.

وعروض التجارة هي:  كل ما كان من المال غير النقدين -الدنانير والدراهم-

أو قُل: العروض هي ما قابل النقدين من صنوف الأموال.

وعلى هذا فكل ما لم يكن من الدنانير والدراهم فهو عَرْضٌ، وهذا يشمل المتاع، والعقار، والحيوان، كان منقولاً أو غير منقول.

فمن اتجر في شيء من هذا من غير النقدين فهي (تجارة عروض) ويطلق على تجارته (عروض التجارة).

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (فالعروض إذاً كل ما أعد للتجارة من أي نوع، ومن أي صنف كان)().

: نقل الإجماع على وجوبها:

لم يختلف الفقهاء في أن الزكاة تجب في أموال أربعة وهي: (النقد-الأنعام-الحرث-عروض التجارة). وبحثنا يخصُّ الصنف الرابع (عروض التجارة)، فإليك أقوالهم:

الأول:

قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله (ت: 224هـ):

(فعلى هذا أموال التجار عندنا، أجمع المسلمون: أن الزكاة فرض واجب فيها)().

الثاني:

قال ابن المنذر رحمه الله (ت: 317هـ):

(وأجمعوا على أن في العروض التي تدار للتجارة الزكاة إذا حال عليها الحول)().

الثالث:

قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله (ت: 321هـ):

وي عن عمر وابن عمر زكاة عروض التجارة من غير خلاف من الصحابة)().

الرابع:

قال البيهقي رحمه الله (ت: 458هـ):

(وهذا قول عامة أهل العلم…وقد حكى ابن المنذر عن عائشة، وابن عباس، مثل ما روينا عن ابن عمر، ولم يحك خلافهم عن أحد)().

الخامس:

قال ابن عبد البر رحمه الله (ت: 463هـ):

(وممن رأى الزكاة في الخيل والرقيق وسائر العروض كلها إذا أريد بها التجارة عمر، وابن عمر، ولا مخالف لهما من الصحابة، وهو قول جمهور التابعين بالمدينة، والبصرة، والكوفة، وعلى ذلك فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، وهو قول جماعة أهل الحديث)().

السادس:

قال أبو الوليد الباجي رحمه الله (ت: 474هـ):

(فثبت أنه إجماع وخالف داود في ذلك فقال لا زكاة في العرض)().

السابع:

قال أبو بكر الشاشي رحمه الله (ت: 509):

(تجب الزكاة في عروض التجارة وبه قال الكافة)().

الثامن:

قال ابن العربي رحمه الله (ت: 543هـ):

(لم يصح فيه خلاف عن السلف)().

التاسع:

قال الكاساني رحمه الله (ت: 587هـ):

(تجب فيها الزكاة وهذا قول عامة العلماء وقال أصحاب الظواهر لا زكاة فيها أصلا)().

العاشر:

قال محمد بن علي بن الدهان رحمه الله (ت: 590هـ):

(وزكاة التجارة زكاة  معنى وقيمة بالإجماع)().

الحادي عشر:

قال ابن قدامة رحمه الله (ت: 620هـ):

(وهذه قصة() يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعًا)().

الثاني عشر:

قال المجد ابن تيمية رحمه الله (ت: 652هـ):

(وهو إجماع متقدم() لقوله تعالى (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) ومال التجارة أعم الأموال فكان أولى بالدخول)().

الثالث عشر:

قال محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله (ت: 1393هـ):

(والصحابة كلهم مطبقون على وجوب زكاة التجارة)().

الرابع عشر:

قالت اللجنة الدائمة حفظها الله:

(وقد اشتهر ما ذكر عن الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر فكان إجماعًا)().

وقالت:

(ثبت وجوب الزكاة في النقود ذهبا كانت أو فضة بالكتاب والسنة والإجماع)().

: الحكم على القول بعدم وجوب الزكاة بالشذوذ، والخطأ، ومخالفة الإجماع، وأن قائله ليس من أهل العلم.

إنما نفى ابن حزم وجوب الزكاة في عروض التجارة لأنه لا يقول بتعليل الأحكام، والقول بعدم تعليل الأحكام وأنها لم تشرع لحكم قول باطل، والصحيح أنها معللة، وأنها نزلت لحكم، لكنها قد يعلمها العلماء فيبنون عليها، ويتوسعون في الأحكام، وقد لا يعلمها العلماء فيقفون عند النص، وهذا هو مسلك الأئمة الأربعة، والأكثر من أهل العلم، وعلى هذا فمن منع زكاة ما لديه من عروض التجارة فهو مخطئ، والأحاديث الواردة في إيجابها في العروض وإن كان فيها ضعف فهي صالحة للاعتضاد والتأييد لهذا الأصل().

وإليك أقوالهم:

الأول:

قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله (ت: 224هـ):

(وقد قال بعض من يتكلم في الفقه: إنه لا زكاة في أموال التجارة. واحتج بأنه إنما أوجب الزكاة فيها من أوجبها بالتقويم، ثم قال: وإنما يجب على كل مال الزكاة في نفسه والقيمة سوى المتاع، فأسقط عنه الزكاة لهذا المعنى. وهذا عندنا غلط في التأويل)().

وقال أيضًا:

(وأما القول الآخر –يعني قول من لم يوجب الزكاة- فليس من مذاهب أهل العلم عندنا)().

قال المحقق الشيخ العلامة محمد خليل هراس معلقًا على قول أبي عبيد رحمه الله:

(لقد أحسن المؤلف في إخراج القائلين بهذا الرأي من زمرة أهل العلم).

الثاني:

قال الخطابي رحمه الله (ت: 388هـ):

(وزعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر أنه لا زكاة فيها وهو مسبوق بالإجماع)().

الثالث:

قال الماوردي رحمه الله (ت: 450هـ):

(وأسقط داود زكاة مال التجارة وشذ بهذا القول عن الجماعة)().

الرابع:

قال القاضي عياض رحمه الله (ت: 544هـ):

(ففيه على هذا إثبات زكاة التجارة، وهو قول عامة العلماء، خلافًا لبعض المتأخرين)().

الخامس:

قال البغوي رحمه الله (ت: 516هـ):

(وقال داود: زكاة التجارة غير واجبة، وهو مسبوق بالإجماع)().

السادس:

قال ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ):

(والأئمة الأربعة وسائر الأمة إلا من شذ متفقون على وجوبها في عرض التجارة)().

السابع:

قال الشنقيطي رحمه الله (ت: 1393هـ):

(وإجماع عامة أهل العلم إلا من شذ عن السواد الأعظم، يكفي في الدلالة على وجوب

الزكاة في عروض التجارة، والعلم عند الله تعالى)().

وقال رحمه الله:

(ولم يخالف في هذا إلا بعض الظاهرية كابن حزم)().

: أول من عرف عنه خرق الإجماع.

لم يُعرف هذا القول عن أحدٍ من السلف كما قال ابن العربي رحمه الله: (لم يصح فيه خلاف عن السلف)().

وأول من عرف عنه القول بعدم وجوب زكاة تجارة العروض داود بن علي إمام المذهب الظاهري، وممن نسب هذا القول إلى داود من الفقهاء: الخطابي()، والقاضي عبد الوهاب()، وابن عبد البر()، والباجي()، والبغوي()، وابن قدامة()، والنووي()، والشنقيطي().

وقد تابع داودَ -في قوله- ابنُ حزم() -وهو المنافح عن هذا المذهب- والشوكاني()، وصديق حسن خان()، والألباني() رحم الله الجميع. وقبل أن نخرج من هذا المبحث بقي أمران متعلقان بالشوكاني رحمه الله:

الأول:

أنه -رحمه الله- نسب() إلى أهل الظاهر القول بعدم زكاة التجارة في الخيل والرقيق فقط

وهذا غلط.

الثاني:

أنه -رحمه الله- ذكرَ في أحد المواضع الإجماع الذي نقله ابن المنذر ولم يتعرض له وكأنه سلَّم له()، وفي موضع آخر من كتبه ذكر الإجماع ونقضه بمخالفة الظاهرية؛ لأنهم فرقة من فرق الإسلام().

: مَن نُسب إليه القول بعدم وجوب زكاة تجارة العروض وهو لا يصح عنه.

نسب هذا القول إلى عدد من الصحابة رضي الله عنه والتابعين:

أولاً: ابن عباس رضي الله عنهما:

فقد نُقل عنه أنه قال: لا زكاة في العرض.

الجواب من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول:

أن هذا لا إسناد له، وإنما ذكره البيهقي في الكبرى()، وفي المعرفة()، بغير إسناد، وأشار البيهقي في الموضعين إلى أن الشافعي ضعفه.

فقال: (فقد قال الشافعي في كتاب القديم إسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف)().

الوجه الثاني:

أن العلماء نقلوا خلاف ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قال البيهقي: (وحكاه ابن المنذر، عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وابن عباس)().

وحين أورد ابن حزم أدلة القائلين بالوجوب قال رحمه الله: (وبخبر صحيح رويناه عن ابن عباس أنه كان يقول: لا بأس بالتربص حتى يبيع، والزكاة واجبة عليه())().

وعجبا لابن حزم الذي صحح هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو صريح في وجوب الزكاة- وتعلق بالأثر الذي نقله الشافعي وضعفه! فقال ابن حزم: (وذكره الشافعي عن ابن عباس).

قلت: ولم ينقل تضعيف الشافعي له!

الوجه الثالث:

لو صح أثر ابن عباس رضي الله عنهما فيحتمل أن يكون معنى قوله: لا زكاة في العرض أي إذا لم يرد به التجارة().

قال النووي رحمه الله:

(وأما قول ابن عباس فهو ضعيف الإسناد ضعفه الشافعي -رضي الله عنه- والبيهقي وغيرهما قال البيهقي: ولو صح لكان محمولاً على عرض ليس للتجارة ليجمع بينه وبين الأحاديث والآثار السالفة)().

ثانيا: عائشة رضي الله عنها.

ونُقل القول بعد الوجوب عن عائشة رضي الله عنها، وممن نقله ابن حزم حيث قال: (وقد روي أيضا عن عائشة)().

وابن عبد البر حيث قال: (قال سفيان عن ابن أبي ذئب، عن القاسم، عن عائشة قالت: ليس في العروض صدقة)().

الجواب من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول:

أن ابن عبد البر لم يسق إسناد أثر عائشة رضي الله عنها، فلا ندري عن ما قبل سفيان!

الوجه الثاني:

أن البيهقي قد نقل عن عائشة رضي الله عنها ما يوافق الإجماع، فقال: (وحكاه ابن المنذر، عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وابن عباس)().

الوجه الثالث:

لو صح أثر عائشة رضي الله عنها فيحتمل أن يكون معنى قولها: « لا زكاة في العرض » أي

إذا لم يرد به التجارة().

قال ابن عبد البر رحمه الله:

(وقال أبو جعفر الطحاوي روي عن عمر وابن عمر زكاة عروض التجارة من غير خلاف من الصحابة. لهذا ومثله قلنا إن الذي روي عن عائشة وابن عباس في أن لا زكاة في العروض إنما ذلك إذا لم يرد بها التجارة)().

ثالثا: عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن نافع:

روى عبد الرزاق() عن نافع بن الخوزي قال: إني لجالس عند عبد الرحمن بن نافع إذ جاءه زياد البواب فقال: إن أمير المؤمنين -لابن الزبير- يقول: أرسل بزكاة مالك قال: هو أرسلك؟ قال: نعم فما راجعه غيرها حتى قام فأخرج مائة درهم. قال: فاقرأ عليه السلام وقل: إنما الزكاة من النَّاض. قال نافع: فلقيت بعدُ زيادا فقلت: أبلغته ما قال؟ قال: نعم. قلت: فماذا قال؟ قال: صدق.

استدل ابن حزم بهذا الأثر على عدم وجوب زكاة عروض التجارة، ومحل الشاهد هي قول عبد الرحمن بن نافع: إنما الزكاة من النَّاض. وصدَّقه ابن الزبير رضي الله عنهما.

فظن ابن حزم أن معنى النَّاض هنا هو الدنانير والدراهم، وعلى هذا يكون ابن الزبير وعبد الرحمن بن نافع لا يريان الزكاة في عروض التجارة.

الجواب من وجهين:

الوجه الأول:

أن هذا الأثر ضعيف لا يصح؛ لأنه من طريق نافع الخوزي وهو لا يعرف().

الوجه الثاني:

أن النَّاض في اللغة كما أنه يطلق على الدنانير والدراهم عند أهل الحجاز كذلك يطلق على المال الموجود الحاضر الحاصل.

قال الأزهري: (ثعلب عن ابن الأعرابي: النَّضُّ: الإظهار، والنَّضُّ: الحاصل، يقال: خُذْ ما نَضّ لك من غريمك. قال: ونَضَّضَ الرجل، إذا كثُر نَاضُّه، وهو ما ظهر وحصل من ماله، قال: ومنه الخبر: « خُذوا صدقة من نَضَّ من أموالهم« ، أي ما ظهر وحصل، وروى شمر بإسناد له، عن عكرمة أنه قال: إنَّ الشريكين يقتسمان ما نَضَّ من أموالهما ولا يقتسمان الدَّيْن)().

قلت: فظهر أن المراد هو أن الزكاة تجب في المال الحاضر ولا تجب في الدَّين. هذا ما عناه ابن الزبير وعبد الرحمن بن نافع.

الوجه الثالث:

أن هذه العبارة تدل على وجوب الزكاة في الدنانير والدراهم ولا تجب في عروض التجارة التي لم تعد للتجارة.

وتبقى هذه الجملة المحتج بها –مع ضعفها- محتملة فلا تقاوم الإجماع المتيقن الذي نقله الأئمة الكبار كأبي عبيد والطحاوي.

رابعا: عمر بن عبد العزيز رحمه الله:

روى أبو عبيد في الأموال() عن إسماعيل بن إبراهيم عن قطن بن فلان، قال: مررت بواسط زمن عمر بن عبد العزيز، فقالوا: قرئ علينا كتاب أمير المؤمنين: أن لا تأخذوا من أرباح التجار شيئًا، حتى يحول عليها الحول.

استدل ابن حزم() بهذا الأثر على عدم وجوب زكاة عروض التجارة.

الجواب من وجهين:

الوجه الأول:

أن الأثر لا يصح؛ لأن قطن بن فلان مجهول، وأضف إلى ذلك جهالة الذين قرئ عليهـم

الكتاب فهم مبهمون لا يُدرى عينهم فضلا عن حالهم.

الوجه الثاني:

إن سلمنا بصحة الأثر فلا دلالة فيه على نسبة هذا القول لعمر بن عبد العزيز فأقصى ما يدل عليه أن ما يستفيده التجار من أرباح فإنهم يستأنفون بها حولاً، فلا يضم إلى رأس المال. وهذا ما فهمه العلماء وعلى رأسهم من روى هذا الأثر وهو أبو عبيد حيث قال بعد هذا الأثر:

(أفلستَ ترى أن عمر استأنف بالربح حولاً، ولم يضمه إلى أصل المال، ثم يزكيه معا؟ فإذا كان لا يرى أن يضم نماء المال إليه وهو منه، فالفائدة من ذلك أبعد. وهو مخالف لقول مالك، إذ رأى أن يضم الربح إلى أصل المال، وفرق بين الربح والفائدة، وهو عندنا على ما قال عمر بن عبد العزيز، أنه لا زكاة في الربح أيضا حتى يحول عليه الحول، وقد كان الليث يقول نحو هذا)().

الوجه الثالث:

أنه قد ورد عن عمر بن عبد العزيز ما يوافق الإجماع وهو القول بوجوب زكاة عروض التجارة، فقد روى مالك()، عن رزيق بن حيان أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن أنظر من مر بك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات من كل أربعين

دينارًا دينارًا().

وقد بوب عليه الإمام مالك (زكاة العروض).

قال الباجي رحمه الله:

(هذا كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بذلك إلى عماله وأصحاب جوائزه وأخذ رزيق به الناس في زمانه وهذا مما يحدث به في الأمصار ولم ينكر ذلك عليه أحد ولا يعلم أحد تظلم منه بسببه والناس متوافرون في ذلك الزمان من بقايا الصحابة وجمهور التابعين ممن لا يحصى كثرة فثبت أنه إجماع)().

قال ابن عبد البر رحمه الله:

(معلوم عند جماعة العلماء أن عمر بن عبد العزيز كان لا ينفذ كتابًا ولا يأمر بأمر ولا يقضي بقضية إلا عن رأي العلماء الجلة، ومشاورتهم والصدر عما يجمعون عليه ويذهبون إليه، ويرونه من السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه المهتدين بهديه المقتدين بسنته، وما كان ليحدث في دين الله ما لم يأذن الله له به مع دينه وفضله…)().

خامسًا: عطاء بن أبي رباح:

نسب داود وابن حزم هذا القول إلى عطاء().

وقد أبان ابن عبد البر خطأ داود في نسبة هذا القول حيث قال:

(وأما ما ذكره –يعني داود- عن عطاء وعمرو بن دينار فقد أخطأ عليهما وليس ذلك بمعروف عنهما)().

قلت: ليس بمعروف عنهما القول بعدم وجوب الزكاة مطلقًا، فهما في الجملة مع الإجماع وإذا جُمعت أقوال عطاء في زكاة العروض لخلصنا إلى القول بأنه من القائلين بوجوب زكاة العروض، إلا أنه يخالف الجمهور في بعض الجزئيات، وإليك هذه الآثار:

قال عطاء:

(لا صدقة في لؤلؤ، ولا زبرجد، ولا ياقوت، ولا فصوص، ولا عرض، ولا شيء لا يدار، وإن كان شيء من ذلك يدار ففيه الصدقة، في ثمنه حين يباع)().

وقال:

(لا زكاة في عرض لا يدار إلا الذهب والفضة فإنه إذا كان تبرًا موضوعًا -وإن كان لا يدار- زكي)().

وقال:

(-في البز- إن كان يدار كهيئة الرقيق زكى ثمنه)().

وسئل عطاء:

(أفي مال اليتيم الصامت صدقة؟ فعجب! وقال: ماله! لا يكون عليه صدقة؟ قال: نعم على مال اليتيم الصامت والحرث والماشية وغير ذلك من ماله)().

وقال:

(ليس في الجوهر شيء ، إلا أن يكون لتجارة)().

قلت: هذا ما وقفت عليه من آثار تنسب لعطاء بن أبي رباح، وهي كله صحيحةٌ، وعلى هذا فلا بد من توجيهه توجيهًا صحيحًا، فآخر هذه الآثار صريح في القول بوجوب زكاة عروض التجارة، ونجد في بعض الآثار اشتراطه رحمه الله في المال أن يكون مدارًا، وهذا هو قول مالك رحمه الله.

قال أبو عبيد رحمه الله:

(والذي عندنا في ذلك ما يقول سفيان وأهل العراق أنه ليس بين ما ينض وما لا ينض فرق. على ذلك تواترت الأحاديث كلها عمن ذكرنا من الصحابة والتابعين، وإنما أجمعوا عن ضم ما في يديه من مال التجارة إلى سائر ماله النقد، فإذا بلغ ذلك ما تجب

في مثله زكاة زكاه، وما علمنا أحدا فرق ما بين الناضِّ وغيره في الزكاة قبل مالك)().

وقد نقل قولَ أبي عبيد ابنُ زنجويه في كتابه الأموال ثم قال معقبًا:

(وقد بلغنا ذلك قبل ذلك عن عطاء بن أبي رباح)().

قال ابن عبد البر رحمه الله:

(والمدير وغير المدير عند جمهور أهل العلم سواء يقوم عند رأس الحول ويزكي كل ما نوى به التجارة في كل حول وممن قال ذلك الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وقال مالك المدير يقوم إذا نضَّ له شيء في العام وغير المدير ليس عليه ذلك وإن أقام العرض للتجارة عنده سنين ليس عليه فيه زكاة فإذا باعه زكاه زكاة واحدة لسنة واحدة وهو قول عطاء)().

وقال ابن عبد البر رحمه الله:

(لا أعلم أحدًا قال بقول الشعبي وعطاء في غير المدير إلا مالكا رحمه الله)().

فظهر من نقل كلام أهل العلم أن عطاء من القائلين بوجوب زكاة عروض التجارة إلا أن له تفصيلا في حكم إخراجها تابعه عليه مالك.

سادسًا: عمرو بن دينار:

نسب داود وابن حزم هذا القول إلى عمرو بن دينار().

فقد روى عبد الرزاق() عن ابن جريج قال: قال عمرو بن دينار: ما أرى الصدقة إلا في العين.

والجواب من وجهين:

الوجه الأول:

أن هذا الأثر ضعيف لا يصح، لعدم تصريح ابن جريج بالسماع وهو مدلس.

الوجه الثاني:

أن مراده -إن صحَّ- أن الزكاة على المال الحاضر وأما الدين فلا زكاة فيه، وذلك أن العين يراد به المال الحاضر.

لأن العين عند أهل اللغة هو: المال العتيد الحاضر().

ومن كلامهم: عين غير دين، أي هو مال حاضرٌ تراه العيونُ().

: الأدلة على وجوب زكاة عروض التجارة.

الدليل الأول:

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ).

وقال مجاهد: من التجارة().

قال البخاري() رحمه الله: (باب صدقة الكسب والتجارة) لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ).

قال البيهقي: (باب زكاة التجارة قال الله تعالى جل ثناؤه: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) الآية().

الدليل الثاني:

قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً).

وهذا عام فيحمل على عمومه إلا ما خصه الدليل().

الدليل الثالث:

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ).

وعروض التجارة داخلة في عموم قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)().

قلت: والدليلان الثاني والثالث من أقوى الأدلة التي قام عليها الإجماع؛ لأن لفظ المال فيها عام فيشمل كل مال على اختلاف أصنافه، ومن المسلم به أن مال التجارة أعم الأموال على الإطلاق فكانت أولى بالدخول تحت عموم الآية.

وهنا يظهر بجلاء مخالفة الظاهرية لأصلهم الأصيل: (الأخذ بظاهر النصوص) فعلى أصلهم فإنهم يلزمون هنا بأخذ الزكاة من كل مال إلا ما خصه الدليل أو الإجماع.

قال ابن عبد البر رحمه الله:

(احتجاج أهل الظاهر في هذه المسألة ببراءة الذمة عجب! عجيب؛ لأن ذلك نقضٌ لأصولهم، وردٌ لقولهم، وكسرٌ للمعنى الذي بنوا عليه مذهبهم، في القول بظاهر الكتاب والسنة؛ لأن الله عز وجل قال في كتابه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) ولم يخصَّ مالاً من مال، وظاهر هذا القول يوجب على أصوله أن تؤخذ الزكاة من كل مال إلا ما أجمعت الأمة أنه لا زكاة فيه من الأموال، ولا إجماع في إسقاط الزكاة عن عروض التجارة)().

الدليل الرابع:

حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: أما بعد فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع().

الدليل الخامس:

حديث معاذ رضي الله عنه وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) ().

ولا شك أن عروض التجارة مال().

الدليل السادس:

عن أبى هريرة رضي الله عن قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: « ما ينقِم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا! قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله

وأما العباس فهي على ومثلها معها ». ثم قال « يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه »().

دلَّ ذلك على أن الزكاة طلبت منه في دروعه وأعتاده وهي لا زكاة فيها، إلا أن تكون عروضا جعلت للتجارة. وخالد لم يجعلها عروضا للتجارة، وإنما احتبسها في سبيل الله().

الدليل السابع:

حديث أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البز –بالزاي- صدقته »().

الدليل الثامن:

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب الناس فقال: « ألا من ولى يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة »().

في الحديث أمرٌ لأولياء اليتامى بأن يتاجروا بأموال اليتامى حتى لا تذهبها الزكاة، أيعقلُ! أن الزكاة تجب في مال اليتيم إذا كان لا يثمر، فإذا صار المال للتجارة لا زكاة فيه؛ لأنه عروض تجارة! وكلنا يعلم أن الشريعة لم تأتِ بالمتناقضات.

الدليل الثامن: (أثر عمر رضي الله عنه).

عن حماس قال: مر بي عمر، فقال: يا حماس، أدِّ زكاة مالك. فقلت: ما لي مال إلا جعاب وأدم. فقال: قومها قيمة، ثم أدِّ زكاتها().

قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول كل شيء من العروض فلا زكاة فيه إلا ما كان للتجارة فإنه يزكى إذا حال عليه الحول على حديث أبي عمرو بن حماس().

ولأثر حماس ما يقويه، فعن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، قال: كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب، فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار، ثم حسبها شاهدها وغائبها،

ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب().

الدليل التاسع (أثر ابن عمر رضي الله عنها):

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما كان من مال في رقيق، أو في دواب، أو في بز للتجارة، فإن فيه الزكاة في كل عام().

قال ابن عبد البر رحمه الله:

(ما كان ابن عمر ليقول مثل هذا من رأيه لأن مثل هذا لا يدرك بالرأي -والله أعلم- ولولا أن ذلك عنده سنة مسنونة ما قاله)().

قلت: ومن نظر في ظاهر رواية عبد الرزاق ظهر له أن أثر ابن عمر له حكم الرفع حيث قال رضي الله عنه: كان فيما كان من مال في رقيق، أو في دواب، أو بز، يدار لتجارة الزكاة كل عام.

الدليل العاشر أثر (عمر عبد العزيز رحمه الله):

(وقد ثبت عن عمر بن عبد العزيز() –وهو من خيار الخلفاء العِظام- أنه كان يقيم الناس في الطرق، ويأخذ الزكاة من التجارات)().

قال الباجي رحمه الله:

(هذا كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بذلك إلى عماله وأصحاب جوائزه وأخذ رزيق به الناس في زمانه وهذا مما يحدث به في الأمصار ولم ينكر ذلك عليه أحد، ولا يعلم أحد تظلم منه بسببه والناس متوافرون في ذلك الزمان من بقايا الصحابة وجمهور التابعين ممن لا يحصى كثرة فثبت أنه إجماع)().

الدليل الحادي عشر:

اقتضت المصلحة العامة، والأمانة الكلية، في حفظ الشريعة ومراعاة الحقوق، أن تؤخذ

الزكاة من عروض التجارة إذا قصد بها النماء().

وختامًا:

(إن القول بعدم وجوب زكاة التجارة فيه من الخطورة على كيان المجتمع الإسلامي ملا يعلم مداه إلا الله، فهو معول هدام يفتح ثغرات أمام المذاهب الهدامة تنفث سمومها في المجتمع وتهزه هزًا، عنيفًا تختل منه صفوفه وتدكه دكًا، وبالتالي يفقد المجتمع توازنه فيحقد الفقير على الغني، والعاطل على العامل، كل هذا يجعل المنصف لا يشك ولا يرتاب في وجوب زكاة التجارة. فالزكاة فريضة من فرائض الإسلام وركن عظيم من أركان ديننا الإسلامي الحنيف، ولو أن المسلمين نفذوا فريضة الزكاة كما أمرهم الله ورسوله لما بقي فقير. ولكان ذلك من أعظم الأسباب التي تواجه تيارات المذاهب الهدامة المختلفة وتقضي عليها قضاء تمامًا)().

 

وكتبه: عرفات بن حسن المحمدي

ليلة الثالث والعشرين من رمضان 1433هـ

مدينة النبي صلى الله عليه وسلم.